Powered By Blogger

الأحد، 26 أغسطس 2012

من رواية بندرشاه ضوء البيت- الطيب صالح

(من رواية بندرشاه ضوء البيت-للطيب صالح)
يسكنون في قري متباعدة, تبدو اضواءها الخافتة بالليل كأنها معلقة في السماء, و تتناهي الاصوات من شاطيء الي شاطيء ضعيفة لا تميزها الاذن . ولكنهم كانوا يعلمون ما يجري عبر النهر كأن بين الضفتين جسورا غير مرئية. يعلمون من سقي زرعه بالليل ومن سقي بالنهار,من مرض ومن ولد ومن مات ومن تزوج,ومن الذي باع ومن الذي اشتري. وكانت نربطهم بعضهم ببعض أواصر وقرابات و أنساب. و تجمعهم الأسواق و المجاملات,يتبادلون بذور (التيراب) و شتل النخل وفحول البقر و الحمير,ويجمع بينهم المداحون و المغنون وحقظة القرأن.هكذا حالهم من ملتقي النهرين الي ما وراء حدود مصر. لذلك لم يكن عجيبا انهم تسامعوا بنبأ الاحتفال الكبير في ود حامد. فجأءؤا من قبلي ومن بحري. من السافل و الصعيد, بالمراكب عبر النيل,بالحمير وسيرا علي الاقدام يحملون هداياهم.تمر و فمح وشعير و لوبيا و بصل وسمن ودهن, كل حسب طاقته,هذا يحمل ديكا وهذا يحمل حملا او (عتود),يجيئون مشتتين مثل رذاذ الغيث , ثم ما يلبثون ان يتكاثفوا ويتلاحموا في خضم عظيم يجيش ويزخر بحياة جديدة ارحب من حصيلة اجزاءه. تصل المرأة طرف الحي وعرقها يتصبب لأنها قامت من اهلها مع طلوع الشمس ووصلت و الشمس في كبد السماء ,فتسمع أصوات السرور وتشم رائحة الوليمة, وتسري اليها عدوي الاطمئنان من الجمع الغفير الذي غرز بيرق الحياة وسط ذلك العدم, فتزغرد من بعيد, فرحا بوجودها بأديء ذي بدء , ثم اعلانا للملأ انها ايضا هنا الأن.ولها في لهاتها صوت يعرب عن ذلك كله.وما يلبث صوتها ان يندمج مع بقية الاصوات ,فيضيف اليها نغمة,لا تميزها الأذن أول وهلة ,ولكن الذي يرهف السمع يدرك انها موجودة,وان صوت الجميع لا يكون جميعا دونها,يصلون واحدا و احدا ,واثنين اثنين,ضعافا هزالا,كل ظهر قد تقوس ,وكل كاهل قد ناء باعباء الحياة و الموت, فيتلقفهم الجمع الكبير فاذا كل واحد قد صار ذاته واكثر.اليوم سوف يجهل العاقل ويسكر المصلي ويرقص الوقور.و ينظر الرجل الي زوجته في حلقة الرقص فكأنه يراها لأول مرة,لا بأس عليهم لأنهم يؤكدون أسباب الحياة وسط كل ذلك العدم.
صفحة 131

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق